السبت 30 نوفمبر 2024

لماذا غاب الحب عن بلادنا ؟!

  • 14-1-2017 | 20:01

طباعة

لست أقصد إلى الحب أو العشق بين المحبين ، وإنما إلى الحب بعمومه ، بمعناه الشامل الذى يتسع لأجمل العواطف الإنسانية فى الوجود. الذى فيه روح الحياة ، وجمال الإخلاص والبذل والعطاء .. الحب الذى يمثل شحنة روحية عطاؤها يثرى الوجود ذاته ، ويجعل لحياة الإنسان معنى. يتجلى فى صلاته ، وصداقاته ، ووشائجه ، وأواصره . وجيرته. وزمالته .. فى وفائه وصدقه وتمتعه بلذة العطاء وإسعاد الناس .. عرفهم أم لا يعرفهم .. الحب الذى يتجلى فى حب الحق والصواب، وحب الجمال والكمال ..

من يحب الحق يكره أن يراه مهضوما ، ويكره الظلم والتجبر والطغيان.. يحب الإنصاف ويأبى التغول على حقوق أو حيوات أو مشاعر الناس . من يحب الصواب ، يستقيم فى اتجاهه. ويسعى للسداد. وينفر من الخطأ والميل أو الانحراف. تكون الاستقامة نهجه ، وطلب الجمال والكمال غايته ومبتغاه . حب الجمال والكمال ينفر من القبح والدمامة. ومن الهبوط والانحطاط. ومن التدمير والإهلاك. ومن القذارة التى تصيب الروح والأشياء. المادية والمعنوية ، يحب الوفاء ويكره الخيانة. يحترم الصدق والاستقامة. وينفر من الكذب والرياء والمداهنة والانحراف . يعتنق الإخلاص ويحركه إخلاصه ، ويأبى الالتواء والإساءة .

محبة الله أم المحبات ، ومن يحب الله يحب عباده ومخلوقاته ، ويحترم الحياة التى خلقها - سبحانه - فى الإنسان والحيوان والنبات ، لا يغتالها ولا يزهقها ولا يعبث بها أو يهلكها .. فالحياة هى الحب، وبدون الحب لا حياة .. هذا الحب الإلهى حب معطاء ، ينسحب على كل ما أحبه الله . وعلى الحياة التى أقامها . والكون الذى أبدعه ، والكائنات التى خلقها .

هذا الحب منبعه الروح والنفس التى سواها - سبحانه وتعالى - فألهمها فجورها وتقواها ، وأنذر من دساها ، ووعد بالفلاح من التزم التقوى وزكاها. ونهى النفس عن الهوى .. الحب الذى يصل المحب بمحبوبه. وبكل من وما يحبه .. فمن أحب الله أحب من يحبه ، وما يحبه ، وأحب كل عمل يقربه من حبه .. وجاء فى وصف المؤمنين بالحديث الشريف إن الذين آمنوا هم الأشد حبًّا لله .. هذا الحب الذى به مذاق حلاوة الإيمان . روى عن الرسول البر والرحمة عليه الصلاة والسلام قوله : «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلاَّ لله ، وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف فى النار» .. الأرواح فى الحديث الشريف «جنود مجندة .. ما تعارف منها إئتلف ، وما تناكر منها أختلف» .

هذه المحبة فى الله ولله ، تتجلى فى كل ما هو جميل ، تتجلى فى محبة الحياة الشريفة النظيفة العفيفة ، وفى احترام الحياة التى خلقها - عز وجل - وقدسها وحث على احترامها وقدسيتها .. وقال فى تكريمه للإنسان : « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً»

(الإسراء 70 ) .. من أحب الله يقدس هذه الحياة ولا يعدو عليها أو يزهقها أو يصادرها.. ويحب ويحترم كل ما أحبه الله تعالى وحث على احترامه .. يحترم العمل وقيم العمل ، ويخلص فيه العطاء والبذل ويحرص على الإتقان والإبداع فيه ، ويتأبى عن العبث فيه أو إهدار قيمه .. يستوعب فى محبة وإذعان ، وصية الخالق البارئ جل شأنه : «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورٌ( (الملك 1،2).

إن الذات الإلهية التى يذوب فيها المحب ، هى المنبع الأسمى لكل ما فى الوجود من آيات الحق والجمال . وهى المورد الأسنى لكل ما فى الكون من دلالات الخير والكمال ، وصف الجنيد الإمام الصوفى هذا المحب بأنه «ذاهب عن نفسه . متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه . ناظر إليه بقلبه ، أحرق قلبَهُ أقدارُ هويته ، وصفا شربُهُ من كأس وده ، وانكشف له الجبار عن أستار غيبه : فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإنُ تحرك فبأمر الله ، وإنُ سكن فمع الله .. فهو بالله ولله ومع الله ».

إن من كان هذا حاله ، لا يقتل ، ولا يهلك ، ولا يدمر ، ولا يتلف .. يحب خلق الله الذين خلقهم الله ، ويحترم الحياة التى أبدعها الله ، يسعى فيها بناءً وإعمارًا ، ولا يعدو عليها إهلاكا وتدميرًا .

من شجرة الحب تتفرع شجيرات المودة والوفاء وحب الوطن.

عن هذه المحاسن وأضدادها حدثنا الجاحظ من نيف وأحد عشر قرنا من الزمان ، فقال فى محاسن «المودة» إن الإنسان لا ينعم فيما قال الحكماء إلاَّ بهذه المودات ، وبزيادتها يزداد رصيده من الطمأنينة والمواساة ، وعن أضدادها وصف اللا مودة بأنها كالتابوت المطلى ظاهره ذهب ، وباطنه خواء .. وفى محاسن شيمه «الوفاء» ساق الجاحظ قصص وفاء الأوفياء ، ومنهم السموأل الذى احترم عهده لامرئى القيس فى حفظ دروعه ولم يثنه عن وفائه تهديد الملك الغازى بذبح ابنه ثم ذبحه دون أن يتراجع السموأل عن وفائه لعهده ، وعن أضدادها ساق مقالة المأمون لمن خان العهد : «إنَّا نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية ، لأن السعاية دلالة ، والقبول إجازة ، وليس من دل على شىء ، كمن قبله وأجازه» فكان أن خجل الخائن الساعى بالشر ، وطلب المعذرة عما بدر منه من قلة الوفاء. وفى محاسن «حب الوطن» حشد الجاحظ ما أبداه أهل زمانه السابقين عليه ، فقال عمر بن الخطاب «لولا حب الوطن لخرب بلد السوء »، وكان يقال : «بحب الأوطان عمرت البلدان »، وقال جالينوس «يتروّح العليل بنسيم أرضه كما تتروّح الأرض الجدبة ببل المطر»، وقال الحكيم بقراط: «يُدَاوى كل عليل بعقاقير أرضه ، فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها». وقيل «إنه من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها تواقة»، وبلغ من حب البدوى للبادية وطنه حين سئل كيف يصنع بها إذا انتصف النهار واشتد القيظ وانعدم الظل ، أن قال لسائله إنه ينصب عصاه ويلقى عليها كساه ، فتكون وكأنها إيوان كسرى .. أما ما قاله مصطفى كامل فى حب الوطن ، فحدث ولا حرج ، ولن تكفيك عشرات الصفحات .

وعلى النقيض ، شبه الحكماء الغريب عن وطنه باليتيم اللطيم ، الذى ثكل أبويه ، فلا أم ترأمه ، ولا أب يحدب عليه . وكان يقال عن النازح عن وطنه إنه كالعبد الناشز عن موضعه ، يصير لكل سبع فريسة ، ولكل كلب قنيصة!

وليس فى مذمة الابتعاد عن الأوطان أبلغ عن قول القرآن الحكيم أن ألم الجلاء كان عوضًا ـ لألمه ـ عن عذاب الله للمخالفين فى الدنيا : «وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا » (الحشر 3) .. حتى لصار الإفراج عن الديار معادلاً فى وجيعته قتل النفس ، فقال عز من قائل «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ...... » (النساء 66 ) .. وباد فى الآيتين ، أن وجيعة ترك الأوطان والجلاء عنها وجيعة شديدة كانت عِدْلاً فى المثل الأول للعذاب فى الدنيا ، وعدلاً فى المثل الثانى لقتل النفس !

لست أخفى أن هذه رسالة من تحت الماء ، لم أقصد بها صنوف الحب والغرام والهوى ، ولا الصَّبْوة والشغف والوجد ، ولا الكلف والعشق والنجوى ، ولا الشوق والوصب والهيام .. وإنما قصدت إلى شميلة الحب الغائبة للأسف عن بلادنا .. فما دخلت هذه الشميلة فى شىء إلاَّ زانته وعضدته وكرمته وأعطته المعنى والقيمة والهدف والغاية . ولو أن هذه الشميلة باقية فى قلوبنا على ما كانت عليه ، لما انحدر بعضنا إلى القتل والذبح والنحر والسحل والإهلاك، والتدمير والتخريب والإتلاف ، والفوضى والترويع .. ولتبادلنا المحبة والمودة والتراحم والتساند والتكافل والوفاء، و لأقبلنا على أعمالنا أداءً و اجتهادًا وإتقانا وإبداعًا ..

ظنى أنه علينا أن نجيب على هذا السؤال .. لماذا ضاعت شميلة الحب من بلادنا وقلوبنا ؟!

فى هذه الإجابة أولى خطوات التشخيص والعلاج .. فلا علاج بغير تشخيص ، فإذا اهتدينا إليه ، كان بوسعنا ـ وهو واجب لازم ـ أن نسرع فى جدّ وإخلاص لتعاطى الدواء !

كتب : رجائى عطية

    الاكثر قراءة